أخلاق المقاومة- تقبيل الأسير الإسرائيلي رأس القسامي.. انتصار قيمي

المؤلف: محمُود الرنتيسي09.17.2025
أخلاق المقاومة- تقبيل الأسير الإسرائيلي رأس القسامي.. انتصار قيمي

على الرغم من أن هذه ليست الواقعة الفريدة التي تسلط الضوء على المعاملة الحسنة التي يلقاها الأسرى الإسرائيليون من جنود ومستوطنين على يد الفلسطينيين، إلا أن مشهد الجندي الأسير عومير شيم توف، كما شاهده العالم بأسره عبر شاشات قناة الجزيرة الفضائية وغيرها من المحطات الإخبارية، وهو يطبع القبلات على رؤوس آسريه من عناصر كتائب القسام في منطقة النصيرات، بتلقائية تامة وراحة بالغة خلال إتمام إجراءات التبادل، قد أثار دويًا هائلًا، وتفاعلًا واسع النطاق.

وفيما ينشغل العديد بطرح تساؤلات حول الدافع الذي يدفع جنديًا إسرائيليًا لتقبيل رأس خاطفيه، تكمن الإجابة ببساطة في وجود سياق واضح تجلى بأبهى صوره في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، واستمرت تداعياته من بعده، ليجعل تلك اللحظة محفورة في الذاكرة الجمعية، كإحدى اللحظات الفارقة التي تؤرخ لانتصار الشعب الفلسطيني أخلاقيًا على خصمه المجرم، الذي ارتكب في حقه جرائم إبادة جماعية، أدانتها المحاكم الدولية بشدة.

قد يستخف البعض بمشهد أسير إسرائيلي يقبل رأس مقاتل قسامي، ويرونه مجرد لقطة عابرة، ولكن هذه الصورة تحمل في طياتها معاني عميقة في سياق توثيق انتصار شعب رازح تحت الاحتلال على من سلب أرضه ومقدساته، وهي ذات أهمية بالغة في مسيرة التحرير، وتمثل سابقة فريدة في تاريخ النضال الفلسطيني.

إن هذه الصورة ليست مجرد لحظة عابرة أو لقطة نشاز، بل هي صورة راسخة تنضح بمعاني الأخلاق الرفيعة، والذكاء الفطري، والقيم النبيلة، وتشكل مؤشرات دالة على التحول الجذري في قضية تشغل بال العالم أجمع.

إن مشهد تقبيل جندي إسرائيلي لرأس مقاوم قسامي، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن المقاومة الفلسطينية ماضية قدمًا في كسب القلوب والعقول بسلوكها القويم، وهذا يعد مكسبًا ثمينًا لأدائها الميداني المتميز، وسلوكها الحضاري الراقي. ولعل أي باحث نزيه يمكنه أن يرصد بسهولة حجم الثناء والإعجاب الذي حظي به سلوك المقاومة الفلسطينية وكتائب القسام، في اليومين الأخيرين فحسب، والذي وصل إلى حد جعل جنديًا إسرائيليًا يقبل رأس المقاتل المسؤول عن أسره.

الجانب الأخلاقي وفوائده

على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية من القتال المرير، أثبتت المقاومة الفلسطينية تفوقًا أخلاقيًا لافتًا في ملف الأسرى، وفي العديد من القضايا الأخرى، وقد كان هذا البعد القيمي حاضرًا بقوة في أول خطاب ألقاه الشهيد محمد الضيف، إبان معركة طوفان الأقصى المباركة، حينما أعلن صراحة عن عدم استهداف الأطفال والشيوخ، وقد تجلى ذلك بوضوح في العديد من الأحداث التي شهدتها المعركة.

وقد وردت شهادات عديدة من مستوطنين إسرائيليين تؤكد هذا الأمر، من بينهم المستوطنة روتم، التي أكدت أن مقاتلي القسام طمأنوها بأنهم لا يستهدفون قتل النساء والأطفال.

إن هذا السلوك الأخلاقي الرفيع الذي تتحلى به المقاومة الفلسطينية يخدمها سياسيًا وعسكريًا، ويعزز من شرعيتها واحترامها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

وفي هذا السياق، يرى العديد من المفكرين والباحثين حول العالم أن الالتزام بالقيم الأخلاقية في المعارك والحروب ليس مجرد مسألة أخلاقية فحسب، بل هو ضرورة إستراتيجية حتمية، تساهم بشكل فعال في تحقيق النصر المنشود، ومن أبرز هؤلاء الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وغيره من المفكرين.

من جانب آخر، جسدت كتائب القسام قيم مجتمعها الفلسطيني الأصيل، وعززت صورتها وصورة شعبها المناضل، من خلال هذا التعامل الإنساني الرفيع مع الأسرى، ومن المرجح أن يكون لهذه الصورة الأخلاقية المشرقة انعكاس إيجابي على زيادة الدعم والتأييد الشعبي، وكسر العزلة التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي فرضها بالقوة الغاشمة.

هناك فوائد أخرى جمة يمكن أن تجنيها المقاومة الفلسطينية من هذا السلوك القويم، ومنها:

معاملة حسنة تدحض التشويه

إن التصريحات التي أدلى بها الجندي الأسير عومير شيم توف ورفقائه من الأسرى الصهاينة، وشكرهم الجزيل لكتائب القسام على حسن معاملتهم خلال فترة الأسر، أو حديثهم مع آسريهم بكل أريحية على المنصة خلال عملية التسليم، قد سلطت الضوء بشكل جلي على هذه المعاملة الإنسانية، التي سعت دولة الاحتلال الإسرائيلي جاهدة لتشويهها بشتى السبل، والتي تضمنت إعداد مقاطع فيديو خاصة يتم عرضها على قادة الدول والشخصيات المؤثرة في العالم.

لا ندري على وجه التحديد ما هي المقاطع التي يقدمها رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو لقادة الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، سواء للرئيس دونالد ترامب أو الرئيس السابق جو بايدن، والتي يبنون على أساسها قناعاتهم حول ما يجري في غزة، وحول أوضاع الأسرى.

ولكن من الواضح والجلي أن هناك عملية تضليل إسرائيلية ممنهجة تجري على قدم وساق، وقد تجلى ذلك بوضوح في استغلال قضية جثامين عائلة بيباس، الذين قتلتهم صواريخ دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة.

وتشير بعض التصريحات الصادرة عن رؤساء الدول، ومن بينهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول عائلة بيباس قبل أيام، إلى أن دولة الاحتلال قد مارست دعاية مضللة في هذا الصدد، ولذلك فإن مثل هذه المقاطع المصورة التي تنشرها كتائب القسام حول كيفية التعامل مع الأسرى، أو تلك التي تحدث بشكل عفوي وتلقائي، تعد ذات أهمية بالغة في إطار إفشال محاولات التضليل التي تمارسها حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بشأن معاملة المقاومة الفلسطينية للأسرى الإسرائيليين.

ومن أمثلة الدعاية الإسرائيلية المضللة ما قدمه جلعاد أردان، السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة والولايات المتحدة، حيث وصف الفلسطينيين في غزة بالنازيين الجدد، في منشور له على منصة "إكس". وكتب قائلًا: "حتى في ألمانيا النازية، كان هناك ألمان أنقذوا اليهود. ولم ينقذ أي شخص من سكان غزة رهينة واحدة".

ومع أن هذه الدعاية باهتة وسطحية في نظر كل من يدرك خفايا القضية الفلسطينية وتفاعلاتها المعقدة، وحتى لدى المجتمع الصهيوني نفسه، فإن دولة الاحتلال مستمرة في ترويج هذه الأخبار الكاذبة والمضللة.

وفي كل الأحوال، تتزايد الشواهد الدالة على فشل عمليات التضليل الإسرائيلية في تشويه صورة المقاومة الفلسطينية، حتى في داخل دولة الاحتلال نفسها، حيث اعتمدت دولة الاحتلال على ذلك على مدار تاريخ الصراع المرير. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست خلال شهر فبراير/ شباط الجاري نتائج استطلاع رأي عام، أظهر أن 50% من المستطلعة آراؤهم من الإسرائيليين، لا يرون أي تشابه بين حركة حماس والنازية.

إبقاء ملف الأسرى حاضرًا

لقد انتهج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سياسات تهدف إلى تجاهل قضية الأسرى، وعمل بكل ما أوتي من قوة على تخفيف الضغوط التي يمكن أن تمارسها عليه هذه القضية، وتحديدًا من جانب عائلات الأسرى، ولكن كتائب القسام لم تكل ولم تمل من محاولات تحريك المياه الراكدة لإحداث حالة ضغط متزايد على حكومة نتنياهو، وظلت مستمرة في إرسال مقاطع مصورة للأسرى من أجل إبقاء هذا الملف حاضرًا بقوة في معادلة المعركة، لأن ملف الأسرى يمثل ورقة رابحة وقوية في يد المقاومة.

وبناءً على ما سبق، فإن كل ما يصدر من مقاطع فيديو وتقارير إخبارية حول قضية الأسرى، يكتسب أهمية بالغة في إبقاء هذا الملف حيًا وفاعلًا، وهو كذلك بذات الأهمية في قطع الطريق على نتنياهو للاستمرار في تجاهل هذا الملف الحساس.

وقد لوحظ مؤخرًا أن عائلات الأسرى الإسرائيليين قد صعدت من لهجة خطابها تجاه نتنياهو وحكومته، وأبدت استياءها الشديد من أن اهتمام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين يفوق اهتمام نتنياهو وحكومته.

ومن الجدير بالذكر أن أجهزة الأمن الإسرائيلية قد مارست ضغوطًا هائلة على عائلات الأسرى، لإجبارهم على المطالبة بعدم بث صور أبنائهم في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي هذه الحالة، لم يكن الهدف هو حماية خصوصية هؤلاء الأسرى، أو منع المجتمع الإسرائيلي من التعرض للدعاية النفسية الموجهة من المقاومة الفلسطينية، بل إن الهدف الحقيقي الذي كانت تسعى إليه حكومة نتنياهو، هو تقليل كل مسارات الضغط التي يمكن أن تتشكل عليها بسبب هذا الملف الشائك.

ذكاء وإبداع

إن الذكاء الفطري والإبداع المتناهي الذي أبدته المقاومة الفلسطينية في التعامل مع قضية الأسرى، يمثل بعدًا آخر لا يقل أهمية عن البعد الأخلاقي، وهو أمر يخدم بشكل فعال إستراتيجيات المقاومة في التعامل مع المرحلة الراهنة.

وقد شاهدنا جميعًا المقطع المصور الذي نشرته المقاومة لأسيرين إسرائيليين وهما يشاهدان زملاءهما أثناء عملية الإفراج عنهم، ثم يناشدان حكومتهما للمضي قدمًا في عملية التبادل، وقد حمل هذا المقطع في طياته معاني المفاجأة والتحدي الأمني للاحتلال، والإبداع في نقل رسالة المقاومة بأسلوب مؤثر وفريد، وهو ما يخدم أهداف المقاومة في استمرار عملية التبادل والانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وصولًا إلى الوقف التام والشامل للعدوان.

إن هذه الصور والمشاهد التي تختزنها الذاكرة الجمعية للرأي العام المحلي والدولي والإقليمي، وحتى لدى مجتمع العدو نفسه، بدءًا من صورة الجندي الإسرائيلي وهو يُسحب من دبابته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وصولًا إلى مشاهد تسليم الأسرى وما تحمله من دلالات عميقة، ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي تعبير صادق عن تحولات جوهرية ومهمة سيكون لها تداعيات وآثار بالغة على جميع الأطراف الفاعلة، بما في ذلك مجتمع المقاومة ومجتمع العدو على حد سواء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة